في المقاصد العام من التشريع
في القواعد الأصولية التشريعية
القاعدة الأولى: في المقاصد العام من التشريع
والمقصد
العام للشارع من تشريعة الأحكام هو تحقيق مصالح الناس بكفالة ضرورياتهم، وتوفير
حاجياتهم وتحسينياتهم.
فكل
حكم شرعي ما قصد به إلا واحد من هذه الثلاثة التي تتكوّن منها مصالح الناس.
ولايراعى
تحسيني إذا كان في مراعاته إخلال بحاجي، ولا يراعى حاجي ولا تحسيني إذا كان في
مراعاة أحدهما إخلال بضروري.
هذه
القاعدة الأولى بيّنت المقصد العام للشارع من تشريع الأحكام الشرعية؛ سواء أكانت
تكليفية أم وضعية، وبينت مراتب الأحكام باعتبار مقاصدها، ومعرفة المقصد العام
للشارع من التشريع من أهم ما يستعان به على فهم نصوصه حق فهمها، وتطبيقها على
الوقائع واستنباط الحكم فيما لا نص فيه.
لأن
دلالة الفاظ والعبارات على المعاني، قد تحتمل عدة وجوه، والذي يرجح واحدا من هذه
الوجوه هو الوقوف على مقصد الشارع، ولأن بعض النصوص قد تتعارض ظوارها، والذي يرفع
هذا التعارض ويوفق بينها أو يرجح أحدها هو الوقوف على مقصد الشارع. ولأن كثيرا من
الوقائع التي تحدث ربما لا تتناولها عبارات النصوص، وتمس الحاجة إلى معرفة أحكامها
بأي دليل من الأدلة الشرعية، والهادي في هذا الاستدلال هو معرفة مقصد الشارع.
ولهذا
يعنى رجال السلطة التشريعية في الحكومات الحاضرة بوضع المذكرات التفسيرية، التي
تبيّن المقصد من تشريع القانون بوجه عام، وتبيّن المقصد الخاص من كل مادة من
مواده. وهذه المذكرات التفسيرية وجميع البحوث والمناقشات التي تبودلت أثناء تحضير
القانون وتشريعة هي عون رجال القضاء على فهم القانون وتطبيقه بنصوصه وروحه
ومعقوله.
وكذلك
نصوص الأحكام التشريعية لا تفهم على وجهها الصحيح إلا إذا عرف المقصد العام للشارع
من تشريع الأحكام، وعرفت الوقائع الجزئية التي من أجلها نزلت الأحكام القرآنية، أو
وردت السنّة القولية أو العملية.
فالمقصد
العام للشارع من التشريع هو المبين في هذه القاعدة الأصولية الأولى، وأما الوقائع
الجزئية التي شرعت لها الأحكام فهي مبيّنة في كتب التفسير وأسباب النزول وصحاح
السنة.
ومنطوق
هذه القاعدة: أن المقصد العام للشارع من تشريع الأحكام هو تحقيق مصالح
الناس في هذه الحياة، بجلب النفع لهم ودفع الضرر عنهم، لأن مصالح الناس في هذه
الحياة تتكوّن من أمور ضرورية لهم، وأمور حاجية وأمور تحسينية، فإذا توافرت لهم
ضرورياتهم وحاجياتهم وتحسيناتهم فقد تحققت مصالحهم. والشارع الإسلامي شرع أحكاما
في مختلف أبواب أعمال الإنسان لتحقيق أمهات الضروريات والحاجيات والتحسينات
للأفراد والجماعات، وما أهمل ضروريّا ولا حاجيّا ولا تحسينيّا من غير أن يشرع حكما
لتحقيقه وحفظه، وما شرع حكما إلا لإيجاد وحفظ واحد من هذه الثلاثة، فهو ما شرع
حكما إلا لتحقيقه مصالح الناس، وما أهمل مصلحة اقتضتها حال الناس لم يشرع لها
حكما.
أما
البرهان على أن مصالح الناس لا تعدو هذه الأنواع الثلاتة: فهو الحس والمشاهدة؛ لأن كل فرد
أو مجتمع تتكوّن مصلحته من أمور ضرورية وأمور حاجية وأمور كمالية، مثلا:
الضروري لسكنى الإنسان مأوى يقيه حر الشمس وزمهرير البرد ولو مغارة في جبل، والحاجي
أن يكون المسكن مما تسهل فيه السكنى بأن تكون له نوافذ تفتح وتغلق حسب الحاجة، والتحسيني أن يجمّل
ويؤثث وتوفر فيه وسا ئل الراحة، فإذا توافر له ذلك فقد تحققت مصلحته في سكناه،
وهكذا طعام الإنسان ولباسه وكل شأن من شئون حياته، تتحقق مصلحته فيه بتوافر هذه
الأنواع الثلاثة له. ومثل الفرد المجتمع، فإذا توافر لأفراده ما يكفل إيجاد وحفظ
ضرورياتهم وحاجياتهم وتحسيناتهم، فقد تحقق لهم ما يكفل مصالحهم.
أما
البرهان على أن كل حكم في الإسلام إنما شرع لإيجاد واحد من هذه الأمور الثلاثة وحفظه فهو: استقراء الأحكام الشرعية
الكلية والجزئية في مختلف الوقائع والأبواب، واستقراء العلل والحكم التشريعية التي
قرنها الشارع بكثير من الأحكام.
وقبل
أن نعرض أمثلة من هذا الاستقراء نبيّن المراد شرعا بالضروري والحاجي والتحسيني.
فأما
الضروري: فهو ما تقوم عليه حياة الناس ولا بد منه لاستقامة مصالحهم، وإذا فقد اختل
نظام حياتهم، ولم تستقم مصالحهم، وعمت فيهم الفوضى، والمفاسد.
والأمور
الضرورية للناس بهذا المعنى ترجع إلى حفظ خمسة أشياء:
الدين،
والنفس، والعقل، والعرض، والمال، فحظ كل واحد منها ضروري للناس.
وأما
الأمر الحاجي: فهو ما تحتاج إليه الناس لليسر والسعة، واحتمال مشاق
التكليف، وأعباء الحياة، وإذا فقد لا يختل نظام حياتهم ولا تعم فيهم الفوضى، كما
إذا فقد الضروري، ولكن ينالهم الحرج والضيق.
والأمور
الحاجية للناس بهذا المعنى ترجع الى رفع الحرج عنهم، والتحفيف عليهم ليحتملوا مشاق
التكليف، وتيسر لهم طرق التعامل والتبادل وسبل العيش.
وأما
التحسيني: فهو ما تقتضيه المروءة والآداب وسير الأمور على أقوم منهاج، وإذا فقد لا
تختل حياة الناس كما إذا فقد الأمر الضروري، ولا ينالهم حرج، كما إذا فُقد هذا
الأمر الحاجي، ولكن تكون حياتهم مستنكرة في تقدير العقول الراجحة والفطر السليمة.
والأمور
التحسينية للناس بهذا المعنى ترجع إلى مكارم الأخلاق ومحاسن العادات وكل ما يقصد به
سير الناس في حياتهم على أحسن منهاج.
ما
الذي شرعه الإسلام للأمور الضرورية للناس؟
الأمور
الضرورية للناس كما قدمنا ترجع إلى خمسة أشياء: الدين، والنفس، والعقل، والعرض،
والمال. وقد شرّع الإسلام لكل واحد من هذه الخمسة أحكاما تكفل إيجاده وتكوينه،
وأحكاما تكفل حفظه وصيانته، وبهذين النوعين من الأحكام حقق للناس ضرورياتهم.
فالدين هو مجموع العقائد والعبادات
والأحكام والقوانين التي شرعها الله سبحانه لتنظيم علاقة الناس بربهم، وعلاقاتهم
بعضهم ببعض. وقد شرع الإسلام لإيجاده وإقامته: إيجاب الإيمان وأحكام
القواعد الخمس التي بني عليها الإسلام، وهي: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا
رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وسائر العقائد،
وأصول العبادات، التي قصد الشارع بتشريعها. إقامة الدين وتثبيته في القلوب باتباع
الأحكام التي لا يصلح الناس إلا بها، وأوجب الدعوة إليه، وتأمين الدعوة إليه من
الاعتداء عليها وعلى القائمين بها، ومن وضع عقبات في سبيلها.
وشرع
لحفظه وكفالة بقائه وحمايته من العدوان عليه: أحكام الجهاد، لمحاربة من يقف
عقبة في سبيل الدعوة إليه، ومن يفتن متدينا ليرجع عن دينه، وعقوبة من يرتدّ عن
دينه، وعقوبة من يبتدع ويحدث في الدين ما ليس منه، أو يحرّف أحكامه عن مواضعها،
والحجر على المفتي الماجن الذي يحلّ المحرم.
النفس:
شرع
الإسلام لإيجادها الزواج للتوالد والتناسل، وبقاء النوع على أكمل وجوه
البقاء.
وشرع
لحفظها وكفالة حياتها، إيجاب تناول ما يقيمها من ضروري الطعام والشراب
واللباس والسكن، وإيجاب القصاص والدّية والكفارة على من يعتدي عليها، وتحريم
الإلقاء بها إلى التهلكة، وإيجاب دفع الضرر عنها.
وشرع
لحفظ العقل تحريم الخمر وكل مسكر، وعقاب من يشربها أو يتناول أي مخدر.
وشرع
لحفظ العرض حد الزاني والزانية وحد القاذف.
والمال:
شرع
الإسلام لتحصيله وكسبه: إيجاب السعي للرزق وإباحة المعاملات والمبادلات
والتجارة والمضاربة.
وشرع
لحفظه وحمايته: تحريم السرقة، وحد السارق والسارقة، وتحريم الغش
والخيانة وأكل أموال الناس بالباطل، وإتلاف مال الغير، وتضمين من يتلف مال غيره،
والحجر على السفينة وذي الغفلة، ودفع الضرر وتحريم الربا.
وكفل
حفظ الضروريات كلها بأن أباح المحظورات للضرورات.
فمن
هذا يتبين أن الإسلام شرع أحكاما في مختلف أبواب العبادات والمعاملات والعقوبات
تقصد إلى كفالة ما هو ضروري للناس بإيجاده وبحفظه وحمايته.
وقد دلّ على هذا القصد بما قرنه ببعض هذه الأحكام من العلل والحكم
التشريعية، كقوله تعالى في إيجاب الجهاد: {وَقَاتلوهم حتّى لا تكون فتنة ويكون
الدّين لله} (البقرة: ١٩٣)، وقوله في إيجاب القصاص: {ولكم في القصاص حياة}
(البقرة: ١٧٩)، وقوله سبحانه: {لتأكلوا فريقا مّن أموال الناس بالإسم}
(البقرة: ١٨٨)، وقول الرسول في تعليل النهي عن بيع التمر قبل أن يبدو صلاحه: ((أرأيت
إذا منع الله الثمر بم يأخذ أحدكم مال أخيه))، إلى غير ذلك من العلل التي تدل
على قصد الشارع حماية الدين والأنفس والأموال وكل ما هو ضروري للناس.
ما الذي شرعه الإسلام للأمور الحاجية للناس؟
الأمور الحاجية للناس، كما قدمنا ترجع إلى ما يرفع الحرج عنهم، ويخفّف عليهم أعباء التكليف،
وييسر لهم طرق المعاملات والمبادلات؛ وقد شرع الإسلام في مختلف أبواب الإبادات
والمعاملات والعقوبات جملة أحكام المقصود بها رفع الحرج، واليسر بالناس.
ففي العبادات شرع الرخص ترفيها وتخفيفا عن المكلفين إذا كان في العزيمة مشقة عليهم،
فأباح الفطر في رمضان لمن كان مريضا أو علي سفر، وقصر الصلاة الرباعية للمسافر،
والصلاة قاعدا لمن عجز عن القيام، وأباح التيمم لمن لم يجد الماء، والصلاة في
السفينة ولو كان الاتجاه لغير القبلة، وغير ذلك من الرخص التي شرعت لرفع الحرج عن
الناس في عباداتهم.
وفي المعاملات، شرع كثيرا من أنواع العقود والتصرفات التي تقتضيها حاجات الناس، كأنواع
البيوع والإجارات والشركات والمضاربات ورخص في عقود لا تنطبق على القياس، وعلى
القواعد العامة في العقود، كالسلم وبيع الوفاء والاستصناع، والمزارعة، والمساقاة،
وغير ذلك مما جرى عليه عرف الناس ودعت إليه حاجاتهم. وشرع الطلاق للخلاص من
الزوجية عند الحاجة، وأحلّ الصيد وميتة البحر والطيبات من الرزق، وجعل الحاجات مثل
الضروريات في إباحة المحظورات.
وفي العقوبات جعل الدية على العاقلة تخفيفا عن القاتل خطأ، ودرأ الحدود بالشبهات، وجعل
لولي المقتول حق العفو عن القصاص من القاتل.
وقد دلّ على ما قصده بهذه الأحكام من التخفيف ورفع الحرج بما قرنه ببعضها
من العلل والحكم التشريعية، كقوله تعالى: {ما يريد الله ليجعل عليكم حرج}
(المائدة: ٦)، وقوله سبحانه: {وما جعل عليكم في الدّين من حرج} (الحج: ٧٨)،
وقوله: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} (البقرة: ١٨٥)، وقوله: {يريد
الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا} (النساء: ٢٨)، وقول الرسول: ((بعثت
بالحنيفية السمحة)).
ما الذي شرعه الإسلام للأمور التحسينية للناس؟
الأمور التحسينية للناس ـ كما قدمنا ـ ترجع إلى كل ما يجمل حالهم ويجعلها على وفاق
ما تقتضيه المروءة ومكارم الأخلاق. وقد شرع الإسلام في مختلف أبواب العبادات
والمعاملات والعقوبات أحكاما تقصد إلى هذا التحسين والتجميل وتعوّد الناس أحسن
العادات، وترشدهم إلى أحس المناهج وأقومها.
ففي العبادات شرع الطهارة للبدن، والثوب، والمكان، وستر العورة، و الاحتراز عن
النجاسات، والاستنجاه من البول، وندب إلى أخذ الزينة عند كل مسجد، وإلى التطوّع
بالصدقة والصلاة والصيام، وفي كل عبادة شرع مع أركانها وشروطها آدابا لها، ترجع
إلى تعويد الناس أحسن العادات.
وفي المعاملات حرّم الغش والتدليس والتغرير والإسراف والتقتير، وحرّم التعامل في كل نجس
وضار، ومهى عن بيع الإنسان على بيع أخيه، وعن تلقي الركبان، وعن التسعير، وغير ذلك
مما يجعل معاملات الناس على أحسن منهاج.
وفي العقوبات، يحرّم في الجهاد قتل الرهبان والصبيان والنساء، ونهى عن المثلة والغدر،
وقتل الأعزال، وإحراق ميت أو حي.
وفي أبواب الأخلاق وأمهات الفضائل، قرر الإسلام ما يهذب الفرد والمجتمع ويسير بالناس
في أقوم السبل. وقد دلّ سبحانه على قصده هذا التحسين والتجميل بالعلل والحكم التي
قرنها ببعض أحكامه، كقوله تعالى: {ولكن يريد ليطهّركم وليتمّ نعمته عليكم}
(المائدة:٦)، وقوله الرسول: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق))، وقوله عليه
الصلاة والسلام: ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا)).
فاستقراء الأحكام الشرعية والعلل والحكم التشريعية في مختلف الأبواب
والوقائع ينتج أن الشارع الإسلامي ما قصد من تشريعه الأحكام إلا حفظ ضروريات الناس
وحاجياتهم وتحسينياتهم، وهذه هي مصالحهم.
وقد أفاض الإمام أبو إسحاق الشطبي في أول الجزء الثاني من كتاب ((الموافقات)) في
إثبات هذا بما لا مزيد عليه، وبعد أن أتى بأمثلة عديدة من أحكام الشريعة وحكم
تشريعها تدل على أن كل حكم شرعي، إنما قصد بتشريعه حفظ واحد من هذه الثلاثة التي
تتكون منها مصالح الناس، قال ما نصه: ((إن الظواهر، والعمومات، والمطلقات،
والمقيّدات، والجزئيات الخاصة في أعيان مختلفة ووقائع مختلفة في كل باب من أبؤاب
الفقه وكل نوع من أنواعه، يؤخذ منها أن التشريع دائر حول حفظ هذه الثلاث التي هي
أسس مصالح الناس)).
وقد اقتضت حكمه الشارع الإسلامي وما أراده من حفظ هذه الأنواع الثلاثة على
أتم وجه، أن شرع مع الأحكام التي تحفظ كل نوع منها أحكاما تعتبر مكملة لها في
تحقيق هذه المقاصد.
ففي الضروريات لمّا شرع إيجاب الصلاة لحفظ الدين، شرع أداءها جماعة وإعلانها
بالأذان، لتكون إقامة الدين وحفظه أتم بإظهار شعائره والاجتماع عليها.
ولما أوجب القصاص لحفظ النفوس، شرع التماثل فيه ليؤدي إلى الغرض منه من غير أن
يثير العداوة والبغضاء، ولأن قتل القاتل بصورة أفظع مم فعل قد تؤدي إلى سفك الدماء
وإلى نقيض المقصود من القصاص.
ولمّا حرّم الزنا لحفظ العرض حرّم الخلوة بالأجنبية سدّا للذريعة.
ولما حرّم الخمر حفظا للعقل حرّم القليل منه ولو لم يسكر.
وجعل كل ما لا يتم الواجب إلا به واجبا، وكل ما يؤدي إلى المحظور محظورا،
وحذّر من كثير من المباحات وقيّد كثيرا من المطلقات، وخصص كثيرا من العمومات
سدّاللذرائع. ولمّا شرع الزواج للتوالد والتناسل، اشترط الكفاءة بين الزوجين
تكميلا للوفاق وحسن المعاشرة، فالأحكام التي شرعها لحفظ الضروريات كملها بتشريع
أحكام تحقق هذا المقصد على أكمل وجوهه.
وفي الحاجيات لما شرع أنواع المعاملات من بيوع وإيجارات وشركات ومضاربات، كمّلها بالنهي
عن الغرر والجهالة وبيع المعدوم، وبيان ما يصح اقتران العقد به من شروط وما لا
يصح، وغير ذلك مما يقصد به أن تكون المعاملات فيها سدّ حاجة الناس من غير أن تثير
الخصومات والأحقاد.
وفي التحسينيات لمّا شرط الطهارة ندب فيها عدة أشياء تكمّلها، ولما ندب إلى التطوع جعل
الشروع فيه موجبا له، حتي لا يعتاد المكلف إبطال عمله الذي شرع فيه قبل أن يتمه،
ولما ندب إلى الإنفاق ندب أن يكون الإنفاق من طيب الكسب.
فمن حقق النظر في أحكام الشريعة الإسلامية، يتبيّن أن المقصود من كل حكم
شرع فيها: حفظ ضروري للناس، أو حاجي لهم، أو تحسيني، أو مكمل لما يحفظ واحدا منها.
ترتيب الأحكام الشرعية بحسب المقصود منها:
مما قدمنا في بيان المراد من الضروري والحاجي والتحسيني يتبين أن الضروريات
أهم هذه المقاصد لأنها يترتب على فقدها اختلال نظام الحياة، وشيوع الفوضى بين
الناس وضياع مصالحهم. وتليها الحاجيات؛ لأنه يترتب على فقدها وقوع الناس في الحرج
والعسر، واحتمال المشقّات التي قد تنوء بهم؛ وتليها التحسينات، لأنه لا يترتب على
فقدها اختلال نظم الحياة ولا وقوع الناس في الحرج، ولكن يترتب على فقدها خروج
الناس على مقتضى الكمال الإنساني والمروءة وما تستحسنه العقول السليمة.
وعلى هذا:
فالأحكام الشرعية التي شرعت لحفظ الضروريات أهم الأحكام وأحقها بالمراعاة، وتليها
الأحكام التي شرعت لتوفير الحاجيات، ثم الأحكام التي شرعت للتحسين والتجميل.
وتعتبر الأحكام التي شرعت للتحسينيات كالمكملة التي شرعت للحاجيات. وتعتبر الأحكام
التي شرعت للحاجيات كالمكملة للتي شرعت لحفظ الضروريات.
فلا يراعى حكم تحسيني إذا كان في مراعاته إحلال بحكم ضروري أو حاجي، لأن المكمل لا يراعى إذا كان
في مراعاته إخلال بما هو مكمل له. ولذا أبيح كشف العورة إذا اقتضى هذا علاج أو
عملية جراحية، لأن ستر العورة تحسيني، والعلاج ضروري. وأبيح تناول النجس إذا كان
دواء أو اضطر إليه، لأن الاحتراز عن النجاسات تحسيني، والمداؤاة ودفع الضروريات
ضروري. وكذلك أبيح بيع المعدوم في السلم والاستصناع، واغتفرت الجهالة في المزارعة
والمساقاة وبيع الغائب، لأن حاجة الناس قضت بأن لا تراعى هذه التحسينات.
ولا يرهعى حكم حاجي إذا كان في مراعاته إخلال بحكم ضروري. ولهذا تجب الفرائض والواجبات
على المكلفين الذين ليسوا في حال تبيح لهم الرخصة وإن شق عليهم ما كلفوا به، إذ كل
تكليف فيه إلزام بما فبه كلفة ومشقة، فلو روعي أن لا تنال المكلف أية مشقة لأهملت
عدة من الأحكام الضرورية من عبادات وعقوبات وغيرها، لأن كل ما أمر به المكلف أو
نهى عنه لحفظ الضروريات لا يخلو امتثاله من مشقة عليه، ولكن احتملت هذه المشقة في
سبيل حفظ الضروريات للمكلفين.
وأما الأحكام الضرورية فتجب مراعاتها، ولا يجوز الإخلال بحكم منها إلا إذا
كانت مراعاة ضروري تؤدي إلى الإخلال بضروري أهم منه. ولهذا أوجب الجهاد حفظا للدين وإن كان فيه تضحية
النفس، لأن حفظ الدين أهم من حفظ النفس. وأبيح شرب الخمر إذا أكره على شربها
بإتلاف نفسه أو عضو منه أو اضطر إليها في ظمأ شديد، لأن حفظ النفس أهم من حفظ
العقل. وإذا أكره على إتلاف مال غيره، أبيح له أن يقي نفسه الهلاك بإتلاف مال
غيره. فهذه الأحكام فيها إهمال حكم ضروري مراعاة
لحكم ضروري أهم منه.
فقد ثبت بالبرهان أن مقاصد الشارع مما شرعه من الأحكام، لا تعدو حفظ واحد
من هذه الثلاثة أو ما يكمله، وأن هذه المقاصد مرتّبة في مراعاتها حسب أهميتها،
وعلى ترتيبها رتبت الأحكام التي شرعت لتحقيقها.
وعلى هذه القاعدة الأصولية التشريعية الأولى، وضعت المبادئ الشرعية الخاصة
بدفع الضرر، والمبادئ الشرعية الخاصة برفع الحرج، وعن كل مبتدأ من هذه المبادئ
تفرعت عدة فروع واستنبطت جملة أحكام.
وهذا بيان المبادئ الخاصة بدفع الضرر، وأمثلة مما تفرع عن كل مبدأ منها:
أ. الضروريزال شرعا: من فروعه: ثبوت حق الشفعة للشريك أو
الجار، وثبوت الخيار للمشتري في ردّ المبيع بالعيب وسائر أنواع الخيارات، والجبر
على القسمة إذا امتنع الشريك، ووجوب الوقاية والتداوي من الأمراض، وقتل الضار من
الحيوان، وتشريع العقوبات على الجرائم من حدود وتعازير وكفارات.
ب. الضرر لا يزال بالضرر: من
فروعه: لا يجوز للإنسان أن يدفع الغرق
عن أرضه بإغراق أرض غيره، ولا أن يحفظ ماله بإتلاف مال غيره، ولا يجوز للمضطر أن
يتناول طعام مضطر آخر.
ت. يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر
العام: من فروعه:
يقتل القاتل لتأمين الناس على نفوسهم، تقطع يد السارق لتأمن الناس على أموالهم،
يهدم الجدار الآيل للسقوط في الطريق العام، يحجر على المفتي الماجن، والطبيب
الجاهل، والمكاري المفلس، يباع مال المدين جبرا عنه إذا امتنع عن بيعه وأداء دينه،
تسعّر أثمان الحاجيات إذا غلا أربابها في أثمانها، يباع الطعام جبرا على مالكه إذا
احتكر واحتاج الناس إليه وامتنع من بيعه، يمنع اتخاذ حانوت حداد بين تجار الأقمشة.
ث. يرتكب أخف الضررين اتقاء
لأشدهما: من فروعه: يحبس الزوج إذا ما طل في القيام بنفقه زوجته، ويحبس القريب إذا امتنع عن
الإنفاق على قريبه، تطلّق الزوجة للضرر وللإعسار، إذا اضطر المريض إلى تناول
الميتة أو مال الغير تناوله، إذا عجز مريد الصلاة عن التطهر أو ستر العورة أو
استقبال القبلة صلى كما قدر، لأن ترك هذه الشروط أخف من ترك الصلاةز
ج. دفع المضار مقدم على جلب
المنافع، ولذا جاء في الحديث: ((ما
نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم))، ومن فروعه: يمنع
أن يتصرف المالك في ملكه إذا كان تصرفه يضر بغيره، يكره للصائم أن يبالغ في
المضمضمة أو الاستنشاق.
ح. الضرورات تبيح المخظورات: من
فروعه: من اضطر في مخمصة إلى ميتة أو
دم أو أي محرم فلا إثم عليه في تناوله، من لم يستطع الدفاع عن نفسه إلا بالإضرار
بغيره فلا إثم عليه في الدفاع به، من امتنع من أداء دينه يؤخذ الدين من ماله بغير
إذنه.
خ. الضرورات تقدّر بقدرها: من
فروعه: ليس للمضطر أن يتناول من
المحرم إلا قدر ما يسد الرممق، ولا يعفى من النجاسة إلا القدر الذي لا يمكن الا
حتراز منه، وأحكام الرخص تبطل إذا زالت أسبابها، فالتيمم يبطل إذا تيسّر التطهر
بالماء، والفطر يحرم في رمضان إذا أقام المسافر الصحيح، وكل ما جاز لعذر يبطل
زواله.
وهذا بيان المبادئ الخاصة برفع الحرج وأمثلة مما يتفرع
عنها:
(أ)
المشقة تجلب التيسير: من فروعها: جميع الرخص التي شرعها الله
ترفيها وتخفيفا عن المكلف لسبب من الأسباب التي تقتضي هذا التخفيف.
وهذه الأسباب بالاستقراء سبعة:
السفر: ومن أجله أبيح الفطر في رمضان، وقصر الصلاة
الرباعية، وسقوط الجمعة، والجماعة، والتيمم.
المرض: ومن أجله أبيح الفطر في رمضان، والتيمم، والصلاة
قاعدا، وتناول المحرم للعلاج.
الإكراه: ومن أجله أبيح للمكره التلفظ بكلمة الكفر، وترك
الواجب، وإتلاف مال الغير، وأكل الميتة، وشرب الخمر.
النسيان: ومن أجله رفع الإثم عمن ارتكب معصية ناسيا، ولم
يبطل صوم من أكل في نهار رمضان أو شرب ناسيا، ولم تحرم ذبيحة من ترك التسمية عليها
عند ذبحها ناسيا.
الجهل: ومن أجله ساغ رد المبيع بالعيب لمن اشتراه جاهلا
بعيبه، وساغ فسخ الزواج بالعيب لمن تزوج جاهلا به، واغتفر التناقض في دعوى النسب
للجهل، وكذلك اغتفر التناقض للوارث والواصي وناظر الوقف للجهل.
عموم البلوى: ومن أجله عفي عن رشاش النجاسات من طين الشوارع
وغيره مما لا يمكن الاحتراز عنه، وعفي عن الغبن اليسير في المعاوضات.
النقص: ومن فروعه: رفع التكليف عن فاقد الأهلية كالطفل والمجنون،
ورفع بعض الواجبات عن الأرقاء وعن النساء، ولذا لا تجب عليهن الجمعة ولا الجماعة،
ولا الجهاد.
(ب) الحرج شرعا مرفوع: من فروعه: قبول شهادة النساء
وحدهن فيما لا يطلّع عليه الرجال من عيوب النساء وشؤونهن، والاكتفاء بغلبة الظن
دون التزام الجزم والقطع في استقبال القبلة وطهارة المكان والماء والقضاء
والشهادة، ومن فروعه: ما قرروه من أنه إذا ضاق الأمر اتسع.
(ت) الحاجات تنزل منزلة الضرورات في
إباحة المحظورات: من فروعه: الترخيص في السلم، وبيع الوفاء، والاستصناع، وضمان الدرك، وجواز الاستقراض
بالربح للمحتاج، وغير ذلك مما فيه العقد أو التصرف على مجهول أو معدوم، ولكن قضت
به حاجة الناس.
ومما يتفرّع على هذا المبدأ حكم كثير من عقود
المعاملات وضروب الشركات التي تحدث بين الناس وتقتضيها تجارتهم، فإنه إذا قام
البرهان الصحيح، ودل الاستقراء التام على أن نوعا من هذه العقود أو التصرفات صار
حاجيّا للناس بحيث ينالهم الحرج والضيق إذا حرم عليهم هذا النوع من التعامل، أبيح
لهم قدر ما يرفع الحرج منه ولو كان محظورا لما فيه من الربا أو شبهته، بناء على أن
الحاجيات تبيح المحظورات كالضرورات، وتقدر بقدرها كالضرورات.
قال صاحب الأشباه والنظائر: ((ومن ذلك الإفتاء بصحة بيع
الوفاء حين كثر الدين على أهل بخارى، وهكذا بمصر، وقد سموه بيع الأمانة.... وفي
القنية والبغية: يجوز للمحتاج الاستقراض بالربح)).
في المقاصد العام من التشريع
Reviewed by Unknown
on
Selasa, Desember 27, 2016
Rating:
Tidak ada komentar:
Tolong komentarnya berhubungan dengan artikel yang ada